فصل: تفسير الآيات (69- 148):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (69- 148):

{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)}
في هذا الدرس يعود السياق من الجولة الأولى في ساحة الآخرة، وفي مجالي النعيم ودارات العذاب، يعود ليستأنف جولة أخرى في تاريخ البشر مع آثار الذاهبين الأولين، يعرض فيها قصة الهدى والضلال منذ فجر البشرية الأولى؛ فإذا هي قصة مكرورة معادة؛ وإذا القوم الذين يواجهون الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بالكفر والضلال بقية من أولئك المكذبين الضالين. ويكشف لهؤلاء عما جرى لمن كان قبلهم، ويلمس قلوبهم بهذه الصفحات المطوية في بطون التاريخ. ويطمئن المؤمنين برعاية الله التي لم تتخل في الماضي عن المؤمنين.
وفي هذا السياق يستعرض طرفاً من قصص نوح، وإبراهيم، وإسماعيل وإسحاق، وموسى وهارون، وإلياس، ولوط، ويونس.. ويقف وقفة أطول أمام قصة إبراهيم وإسماعيل. يعرض فيها عظمة الإيمان والتضحية والطاعة، وطبيعة الإسلام الحقيقية كما هي في نفسي إبراهيم وإسماعيل، في حلقة لا تعرض في غير هذه السورة، ولا ترد إلا في هذا السياق.. وهذا القصص هو قوام هذا الدرس الأصيل..
{إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين}..
إنهم عريقون في الضلالة، وهم في الوقت ذاته مقلدون لا يفكرون ولا يتدبرون؛ بل يطيرون معجلين يقفون خطى آبائهم الضالين غير ناظرين ولا متعقلين:
{إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون}..
وهم وآباؤهم صورة من صور الضلال التي يمثلها أكثر الأولين:
{ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين}.
وكان ضلالهم بعد الإنذار والتحذير:
{ولقد أرسلنا فيهم منذرين}..
ولكن كيف كانت العاقبة؟ كيف كانت عاقبة المكذبين؟ وكيف كانت عاقبة عباد الله المخلصين؟ إنها معروضة في سلسلة القصص. وهذا الإعلان في مقدمتها للتنبيه:
{فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين}..
ويبدأ بقصة نوح في إشارة سريعة تبين العاقبة، وتقرر عناية الله بعباده المخلصين:
{ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العاليمن إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين}.
وتتضمن هذه الإشارة توجه نوح بالنداء إلى ربه، وإجابة دعوته إجابة كاملة وافية. إجابتها من خير مجيب. لله سبحانه. {فلنعم المجيبون}.. وتتضمن نجاته هو وأهله من الكرب العظيم. كرب الطوفان الذي لم ينج منه إلا من أراد له الله النجاة وقدر له الحياة.. وتتضمن قدر الله بأن يجعل من ذرية نوح عماراً لهذه الأرض وخلفاء. وأن يبقى ذكره في الأجيال الآتية إلى آخر الزمان: {وتركنا عليه في الآخرين}.. وتعلن في الخافقين سلام الله على نوح.
جزاء إحسانه: {سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين}.. وأي جزاء بعد سلام الله. والذكر الباقي مدى الحياة! أما مظهر الإحسان وسبب الجزاء فهو الإيمان: {إنه من عبادنا المؤمنين}.. وهذه هي عاقبة المؤمنين.. فأما غير المؤمنين من قوم نوح فقد كتب الله عليهم الهلاك والفناء: {ثم أغرقنا الآخرين}.. ومضت سنة الله منذ فجر البشرية البعيد. وفق ذلك الإجمال في مقدمة القصص: {ولقد أرسلنا فيهم منذِرِين فانظر كيف كان عاقبة المنذَرِين إلا عباد الله المخلصين}..
ثم تجيء قصة إبراهيم. تجيء في حلقتين رئيسيتين: حلقة دعوته لقومه، وتحطيم الأصنام، وهمهم به ليقتلوه، وحماية الله له وخذلان شانئيه وهي حلقة تكررت من قبل في سور القرآن وحلقة جديدة لا تعرض في غير هذه السورة. وهي الخاصة بحادث الرؤيا والذبح والفداء، مفصلة المراحل والخطوات والمواقف، في أسلوبها الأخاذ وأدائها الرهيب! ممثلة أعلى صور الطاعة والتضحية والفداء والتسليم في عالم العقيدة في تاريخ البشرية الطويل.
{وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين}..
هذا هو افتتاح القصة، والمشهد الأول فيها.. نقلة من نوح إلى إبراهيم. وبينهما صلة من العقيدة والدعوة والطريق. فهو من شيعة نوح على تباعد الزمان بين الرسولين والرسالتين؛ ولكنه المنهج الإلهي الواحد، الذي يلتقيان عنده ويرتبطان به ويشتركان فيه.
ويبرز من صفة إبراهيم سلامة القلب وصحة العقيدة وخلوص الضمير:
{إذ جاء ربه بقلب سليم}..
وهي صورة الاستسلام الخالص. تتمثل في مجيئه لربه. وصورة النقاء والطهارة والبراءة والاستقامة تتمثل في سلامة قلبه. والتعبير بالسلامة تعبير موح مصور لمدلوله، وهو في الوقت ذاته بسيط قريب المعنى واضح المفهوم. ومع أنه يتضمن صفات كثيرة من البراءة والنقاوة، والإخلاص والاستقامة.. إلا أنه يبدو بسيطاً غير معقد، ويؤدي معناه بأوسع مما تؤديه هذه الصفات كلها مجتمعات! وتلك إحدى بدائع التعبير القرآني الفريد.
وبهذا القلب السليم، استنكر ما عليه قومه واستبشعه. استنكار الحس السليم لكل ما تنبو عنه الفطرة الصادقة من تصور ومن سلوك:
{إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين}.. وهو يراهم يعبدون أصناماً وأوثاناً. فيهتف بهم هتاف الفطرة السليمة في استنكار شديد. {ماذا تعبدون} ماذا؟ فإن ما تعبدون ليس من شأنه أن يعبد، ولا أن يكون له عابدون! وما يعبده الإنسان في شبهة من حق. إنما هو الإفك المحض. والافتراء الذي لا شبهة فيه. فهل أنتم تقصدون إلى الإفك قصداً وإلى الافتراء عمداً: {أإفكا آلهة دون الله تريدون} وما هو تصوركم لله؟ وهل يهبط وينحرف إلى هذا المستوى الذي تنكره الفطرة لأول وهلة: {فما ظنكم برب العالمين}.
وهي كلمة يبدو فيها استنكار الفطرة السليمة البريئة، وهي تطلع على الأمر البين الذي يصدم الحس والعقل والضمير.
ويسقط السياق هنا ردهم عليه، وحوارهم معه؛ ويمضي مباشرة في المشهد التالي إلى عزيمته التي قررها في نفسه تجاه هذا الإفك المكشوف:
{فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون مالكم لا تنطقون فراغ عليهم ضرباً باليمين}..
ويروى أنه كان للقوم عيد ربما كان هو عيد النيروز يخرجون فيه إلى الحدائق والخلوات، بعد أن يضعوا الثمار بين يدي آلهتهم لتباركها. ثم يعودون بعد الفسحة والمرح فيأخذون طعامهم المبارك! وأن إبراهيم عليه السلام بعد أن يئس من استجابتهم له؛ وأيقن بانحراف فطرتهم الانحراف الذي لا صلاح له، اعتزم أمراً. وانتظر هذا اليوم الذي يبعدون فيه عن المعابد والأصنام لينفذ ما اعتزم. وكان الضيق بما هم فيه من انحراف قد بلغ أقصاه وأتعب قلبه وقواه، فلما دعي إلى مغادرة المعبد، قلب نظره إلى السماء، وقال: {إني سقيم}.. لا طاقة لي بالخروج إلى المتنزهات والخلوات. فإنما يخرج إليها طلاب اللذة والمتاع، أخلياء القلوب من الهم والضيق وقلب إبراهيم لم يكن في راحة ونفسه لم تكن في استرواح.
قال ذلك معبراً عن ضيقه وتعبه. وأفصح عنه ليتركوه وشأنه. ولم يكن هذا كذباً منه. إنما كان له أصل في واقع حياته في ذلك اليوم. وإن الضيق ليمرض ويسقم ذويه!
وكان القوم معجلين ليذهبوا مع عاداتهم وتقاليدهم ومراسم حياتهم في ذلك العيد؛ فلم يتلبثوا ليفحصوا عن أمره، بل تولوا عنه مدبرين، مشغولين بما هم فيه. وكانت هذه هي الفرصة التي يريد.
لقد أسرع إلى آلهتهم المدعاة. وأمامها أطايب الطعام وبواكير الثمار. فقال في تهكم: {ألا تأكلون}.. ولم تجبه الأصنام بطبيعة الحال. فاستطرد في تهكمه وعليه طابع الغيظ والسخرية: {ما لكم لا تنطقون}.. وهي حالة نفسية معهودة. أن يوجه الإنسان كلامه إلى ما يعلم حقيقته، ويستيقن أنه لا يسمع ولا ينطق! إنما هو الضيق بما وراء الآلهة المزعومة من القوم وتصورهم السخيف!.. ولم تجبه الآلهة مرة أخرى!! وهنا أفرغ شحنة الغيظ المكتوم حركة لا قولاً: {فراغ عليهم ضرباً باليمين}.. وشفى نفسه من السقم والهم والضيق..!
وينتهي هذا المشهد فيليه مشهد جديد. وقد عاد القوم فاطلعوا على جذاذ الآلهة! ويختصر السياق ما يفصله في سورة أخرى من سؤالهم عمن صنع بآلهتهم هذا الصنع، واستدلالهم في النهاية على الفاعل الجريء. يختصر هذا ليقفهم وجهاً لوجه أمام إبراهيم!
{فأقبلوا إليه يزفون}..
لقد تسامعوا بالخبر، وعرفوا من الفاعل، فأقبلوا إليه يسرعون الخطى ويحدثون حوله زفيفاً.. وهم جمع كثير غاضب هائج، وهو فرد واحد. ولكنه فرد مؤمن. فرد يعرف طريقه. فرد واضح التصور لإلهه.
عقيدته معروفة له محدودة. يدركها في نفسه، ويراها في الكون من حوله. فهو أقوى من هذه الكثرة الهائجة المائجة، المدخولة العقيدة، المضطربة التصور. ومن ثم يجبههم بالحق الفطري البسيط لا يبالي كثرتهم وهياجهم وزفيفهم!
{قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون}..
إنه منطق الفطرة يصرخ في وجههم: {أتعبدون ما تنحتون}.. والمعبود الحق ينبغي أن يكون هو الصانع لا المصنوع: {والله خلقكم وما تعملون}. فهو الصانع الوحيد الذي يستحق أن يكون المعبود.
ومع وضوح هذا المنطق وبساطته، إلا أن القوم في غفلتهم وفي اندفاعهم لم يستمعوا له ومتى استمع الباطل إلى صوت الحق البسيط؟ واندفع أصحاب الأمر والنهي فيهم يزاولون طغيانهم في صورته الغليظة:
{قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم}..
إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف الطغاة منطقاً سواه؛ عندما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل. وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين.
ويختصر السياق هنا ما حدث بعد قولتهم تلك، ليعرض العاقبة التي تحقق وعد الله لعباده المخلصين ووعيده لأعدائهم المكذبين:
{فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسْفلين}..
وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد؟ وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل من الطغاة والمتجبرين وأصحاب السلطان وأعوانهم من الكبراء إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين؟..
ثم تجيء الحلقة الثانية من قصة إبراهيم.. لقد انتهى أمره مع أبيه وقومه. لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم. وأراد الله أن يكونوا هم الأسفلين؛ ونجاه من كيدهم أجمعين.
عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة؛ وطوى صفحة لينشر صفحة:
{وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين}..
هكذا.. إني ذاهب إلى ربي.. إنها الهجرة. وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته. يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض، وبهؤلاء الناس. ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء، طارحاً وراءه كل شيء، مسلماً نفسه لربه لا يستبقي منها شيئاً. موقن أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه، وينقلها في الطريق المستقيم.
إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء. إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين.
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له؛ وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى، والصحبة والمعرفة. وكل مألوف له في ماضي حياته، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه. اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح:
{رب هب لي من الصالحين}.
واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد، الذي ترك وراءه كل شيء، وجاء إليه بقلب سليم..
{فبشرناه بغلام حليم}..
هو إسماعيل كما يرجح سياق السيرة والسورة وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام. ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته. لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام، الذي يصفه ربه بأنه حليم.
والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم. بل في حياة البشر أجمعين. وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم..